مقر الجمعية- القاهرة
9 فبراير/ شباط 2019
د. صالح عزب (*)
ضغطت الأحزاب البيئية علي حكوماتها بالدول المتقدمة لإنتهاج مواصفات بيئية متشددة علي أنشطة إنتاج وإستهلاك وتجارة المنتجات, بهدف السيطرة على التدهور البيئى المصاحب للأنشطة الاقتصادية. وتسبب الالتزام بهذه المواصفات في إرتفاعآ كبيرآ في تكاليف الانتاج. مما جعل المؤسسات الاقتصادية تشتكى من إنخفاض تنافسيتها المحلية والعالمية. لأن الواردات القادمة من دول لاتهتم بالإعتبارات البيئة, أو أن المواصفات البيئية متراخية لديها, لن تتحمل شركاتها تكاليف مماثلة للمنتجين المحليين, وبالتالى ستكتسب ميزة تنافسية عليها. لذا كانت المطالب بتنسيق المواصفات البيئية عبر الحدود, وفرض نفس المواصفات علي الواردات.
بدأت الدول تستخدم الترميز البيئي كمواصفات علي المنتجات المحلية والمستوردة, وعلي أساليب إنتاجها. حيث يتم فحص كامل دورة حياة المنتجات , والتدهور البيئى المصاحب لمختلف مراحل التصنيع والاستهلاك وتدوير النفايات. ويتطلب الالتزام بهذه المواصفات إستيراد تكنولوجيات أحدث وأنظف من الدول المتقدمة, وكذلك مستلزمات للانتاج ومواد كيماوية معينة إجبارية لإحلالها محل المواد التقليدية. كان ذلك يمثل عبئآ ثقيلآ علي المنتجين المصريين, وتسبب في إعاقة نفاذ صادراتهم للأسواق الأوروبية والأمريكية.
وعلي الرغم من تضارب هذه المواصفات مع أحكام منظمة التجارة العالمية, ورغم عدم ملائمتها أيضآ للظروف المحلية المصرية. فليس أمام الشركات الراغبة في التصدير لهذه الأسواق سوى الإلتزام بها. لأنها كما تخلق حواجز على التجارة, فهى أيضآ توفر فرصآ واعدة للتسويق الأخضر للصادرات. وهو ما يقتضى البدء بإتخاذ الإجراءات اللازمة لتطويع عمليات الانتاج للمواصفات البيئية كخطوات في طريق التنمية المستدامة.
يواجه المصدرون في مصر ضغوطا من عملائهم بالدول المتقدمة لتطبيق المواصفات البيئية ليس فقط علي المنتجات , بل أيضآ علي أساليب إنتاجها, والمدخلات والملوثات الغازية والسائلة المنطلقة وكيفية التعامل معها. وقد يصل الأمر لمطالبة الدولة المستوردة بفحص إنشاءات المصانع وتسهيلات الإنتاج, كما في حالة الصناعات الغذائية ومستحضرات التجميل, وخاصة عند التعامل مع فروع الشركات متعددة الجنسية.
يشكل الإلتزام بالمواصفات البيئية إرتفاعآ كبيرآ في تكاليف الآنتاج بإستخدام تكنولوجيا أنظف, مما يؤثر علي ربحية وتنافسية الصادرات. ويشتد هذا التأثير علي دول نامية مثل مصر تتخصص في تصدير عدد محدود من السلع”معظمها من المنتجات الحساسة بيئيآ” بحيث يصعب تعويض الأثر السلبي علي قطاعات معينة كثيفة التلوث في قطاعات أخرى. كما أن وقع أثر إرتفاع التكاليف سيكون أشد وطأة علي الشركات صغيرة ومتوسطة الحجم, والتى تمثل في مصر أغلب المؤسسات العاملة في صناعات تصديرية ذات قيمة مضافة منخفضة نسبيآ مثل المنسوجات والجلود. حيث إكتسب المصدرون تنافسيتهم علي أساس السعر بأكثر مما علي العوامل الأخري غير السعرية. وعندما تفرض المواصفات الجديدة لتحل الجودة البيئية محل السمات التقليدية لنوعية المنتج, وتصبح هذه السمات هي الشرط الجوهرى لولوج أسواق الدول المتقدمة. فيمكن تصور حجم المخاطر التى تهدد الصادرات في مصر, والتي أدت لفقدان حصتها من صادرات القمصان للسوق الأمريكية, بسبب عدم قدرتها علي تلبية المواصفات البيئية المطلوبة, والخاصة بنسبة متبقيات المبيدات المستخدمة في زراعة القطن علي نسيج القمصان, ما يشكل مخاطر صحية علي مستخدميها.
بإستثناء التصدى في منظمة التجارة العالمية (WTO)World Trade Organization لمحاولات الدول المتقدمة إستخدام هذه المواصفات كحواجز غير تعريفية علي التجارة (NTB) Non Tariff Barriers, فليس أمام الراغبين في غزو أسواق الدول المتقدمة سوى الإلتزام بالمواصفات البيئية التي وضعتها هذه الدول علي المنتجات القادمة اليها.
والحق أن هذا الالتزام ليس كله شرور, بل يحمل في طياته مؤثرات إيجابية أهمها رفع الوعي والإهتمام بالبيئة. ذلك أن التدهور البيئي في مصر قد بلغ مستويات خطيرة تهدد صحة الإنسان ومستقبل التنمية بسبب الإنبعاثات التي جعلت القاهرة من أكثر ثلاث مدن تلوثآ بالهواء في العالم, فضلآ عن التدفقات السائلة الخارجة من المصانع وتصب في النيل أو الترع أو تتسرب للمياه الجوفية, فتهدد صحة الكائنات الحية والتربة. كما تعتمد في أغلب صادراتها علي الموارد الطبيعية والإنتاج الأولى, ومن ثم فإن تحرير التجارة وتسريع نمو الصادرات سيعجل من استنزاف الموارد غير المتجددة كالطاقة والتربة الزراعية, مما يؤثر علي إنتاجيتها وتكلفتها المستقبلية. كما تعاني مصر من البطالة وإنتشار الفقر وندرة الموارد اللازمة لإستكمال البنية الأساسية وتلبية الإحتياجات الضرورية للمواطنين. ومن ثم فإن الإنفاق علي حماية البيئة سيكون علي حساب معدة مواطنيها.
من الصحيح أيضآ أن مصر لازالت تعاني من مشاكل بيئية محلية مثل إنتشار القمامة وسوء إدارة النفايات الصلبة والسائلة والصرف الصحي, والإفتقاد لمياه شرب نظيفة, وغيرها من المشاكل المحلية التى تخطتها الدول المتقدمة ولكنها لازالت ذات أولوية وإلحاحآ عن قضايا عالمية تهتم بها الدول المتقدمة مثل التغير المناخى وثقب الأوزون, وخفض تركيزات غازات الكربون والميثان وغيرها في الجو.
مما سبق يتضح أن علي مصر إتخاذ الإجراءات الكفيلة بإنتهاج مواصفات بيئية أكثر حزمآ لمواجهة التدهور البيئي الداخلي من جهة, ومن جهة أخري تلبية متطلبات المواصفات البيئية العالمية, وتحسين صورة مصر بإعتبارها دولة تهتم بالإعتبارات البيئية وتدمجها في قرارات الإستثمار والإستهلاك. فلا يمكن لإستراتيجيات النمو التي تتجاهل الإعتبارات البيئية وتسعي وراء منافع إقتصادية قصيرة الأجل أن تتلائم مع مفهوم التنمية المستدامة.
وتهدف هذه الورقة لتبين طبيعة المواصفات البيئية التي تحكم أسواق التجارة الدولية, وتشكل تحديات أمام الصادرات المصرية, وماهي إمكانات مواجهة هذه التحديات.