لقطات
ورحل حاملا رايته
جودة عبد الخالق
الراحل هو المفكر القومى العربى خير الدين حسيب. ورايته هي راية العروبة. ولد في العراق. ودرس الاقتصاد في إنجلترا. وعاد منها ليعمل محافظا للبنك المركزى العراقى. ثم غادر العراق مضطرا الى بيروت في عام 1974، واستقر بها حتى رحيله مساء الجمعة الماضى. وتنقل بين جل العواصم العربية مبشرا بالوحدة العربية وداعيا إلى التكامل الاقتصادى العربى. إنه هو الأب الروحي للحركة القومية العربية بمحتواها الاقتصادى الاجتماعى. ألف العديد من الكتب. لكن أهم كتبه: “العراق من الاحتلال الى التحرير” (2017) و “الأمة العربية ومستقبلها “(2016).
تشكل توجهه القومى العربى من خلال نشاطه في الجمعيات الطلابية العربية حتى أصبح نائب رئيس “رابطة الطلاب العرب” في بريطانيا. كما أنه تأثر كثيرا بالفقر الذى رآه في العراق، فكان بداية لتوجهه التقدمى. وتوقف في بداية قراءاته عند كتاب الدكتور يوسف الصايغ “الخبز مع الكرامة؛ المحتوى الاقتصادى الاجتماعى للمفهوم القومى العربى”، المنشور عام 1961. أسس في بيروت مركز دراسات الوحدة العربية مع عدد من المفكرين والمثقفين عام 1975، “كمركز فكر وثقافة يهدف لتعميق الوعي العربي بقضايا الأمّة العربية والتحديات التي تجابه الوحدة والنهوض”، و تولى موقع مديره العام، ثم أصبح رئيساً لمجلس أمنائه. ومن أهم المشروعات الفكرية التي رعاها المركز مشروع “استشراف مستقبل الوطن العربى”، في أوائل الثمانينيات من القرن الماضى، والذى كان لى حظ المشاركة في مراحله الأولى.
كان لزيارته لمصر عام 1961 تأثير كبير عليه، وربطته بالرئيس جمال عبد الناصر علاقة وطيدة. وبعد عودته من زيارة مصر بدأ العمل على مخطط لتشريعات اشتراكية منها “قانون تأميم البنوك” وتعديل “قانون ضريبة الدخل والتركات”. وبعد ذلك بعامين تولى وظيفة محافظ البنك المركزي بدرجة وزير. ثم أصبح رئيساً للمؤسسة الاقتصادية العامة في العراق، التي أشرفت على جميع الأنشطة الاقتصادية بعد تأميم المشاريع الكبرى. يحسب له نضاله ضد سيطرة الشركات الأجنبية على نفط العراق، ومشاركته في محاربة الفساد. وكان وراء دراسة اعتمدت كأساس في عملية تأميم النفط في العراق. و تأكيدا للتضامن العربى، قام الدكتور خير الدين حسيب خلال توليه المسئولية بدور فاعل في تقديم قرض عراقى لمصر بعد حرب 1967.
حرص خير الدين حسيب على خلق منظمات عمل عربي متخصصة. فانطلقت من ندوات المركز أفكار تأسيسية للعديد من المنظمات. وأذكر بالتحديد ندوة المركز في قبرص عام 1983 حول “أزمة الديمقراطية في الوطن العربي”. فقد انطلق منها المؤتمر التأسيسي للمنظمة العربية لحقوق الإنسان لتصبح منظمة مستقلة فاعلة وحاضرة في جميع المحافل المعنية بحقوق الإنسان. كما انطلقت على هامش هذه الندوة ايضا الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية حيث بادر عدد من كبار الاقتصاديين العرب المشاركين في الندوة ودعوا لتأسيس الجمعية، وعقد اجتماعها التأسيسي في القاهرة في آذار/مارس 1987. و في نفس الفترة لعب دورا فاعلا في اطلاق الجمعية العربية للعلوم السياسية والجمعية العربية لعلم الاجتماع. كم دعم إنشاء المنظمة العربية للترجمة عام 1999، والمنظمة العربية لمكافحة الفساد عام 2005 التي تأسست أثر مؤتمر عقده مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت في أيلول/سبتمبر 2004 ناقش موضوعات الشفافية ومناهضة الفساد والحكم الصالح في الاقطار العربية.
الدكتور خير الدين ستبقى علماً عربياً مستقلاً مرفرفاً في عالم الثقافة والوحدة والنهوض العربي، لك الرحمة ولعائلتك وأصدقائك ومحبيك خالص العزاء.
من حسن حظى أن جمعتنى بالراحل الكريم علاقة أخوة واحترام متبادل على امتداد أكثر من أربعة عقود، بعد أول لقاء معه في أحد المؤتمرات في بيروت. وأشهد أنه كان عروبيا حتى النخاع. كان أحيانا ما يناقشنى في جهود اللجنة الاقتصادية في حزب التجمع ويثمن نشاطها. ثم كان آخر لقاء لنا في ديسمبر 2019، في احتفالية الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية بعيدها الثلاثين في بيروت. كنت سعيدا وكان هو أيضا أننا كرمناه في تلك المناسبة.
حكمة اليوم:
لا تصالح
ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ
هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم
وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ